Hello world!

Welcome to WordPress.com. This is your first post. Edit or delete it and start blogging!

الكلية الفيثاغورثية :

 
أسس فيثاغورث مدرسة في موطنه الأصلي ساموس , ثم هرب نتيجة الاستبداد و الأوضاع السياسية السيئة إلى كروتونا و هي مستعمرة يونانية في جنوب إيطاليا
 , و هناك أسس فيثاغورث نظاماً تعليمياً رائعاً لم يكن موجوداً من قبل , حيث أنشأ كلية لثلاثمائة طالب , واضعاً منهجاً دراسياً مميزاً لهم يتناسب مع حاجات كل جنس ( الذكور , الإناث ) غايته الارتقاء بفكر الطالب و عقله و فضائله نحو الكمال .

أعطى فيثاغورث الأهمية لكمال الفضيلة في النفس و فضَّلها على التدريب الفكري المجرد و دراسة العلوم الأخرى في منهاجه .. و كم نحن اليوم بحاجة إلى مثل هذا النوع من التفضيل .. فالفكر و العلم دون فضيلة يكون لعنة لا نعمة .

كان هدف فيثاغورث النهائي كمال المجتمع الإنساني من خلال الإصلاح الاجتماعي و السياسي , فتلاميذه الفيثاغورثيين كانوا هم رسله إلى مدن أوروبا , و كان يجهزهم كقادة اجتماعيين و إصلاحيين مستقبليين , فالمجتمع الفاضل برأيه يجب أن يحكم من قبل الفلاسفة و العلماء و ليس من قبل السياسيين الجهلة .

بنى فيثاغورث نظامه التعليمي على العلم المقدِس للحياة , واضعاً نمطاً للتقدم المعرفي يمر به الطالب و يرتقيه درجة درجة .

قسم فيثاغورث كليته إلى معابد , و سمى كل معبد باسم آلهة معينة , يختص فيه بدراسة علم أو فن معين , فكان علم النجوم و الفلك يُدرَّس في معبد الآلهة أورانيا مثلاً , كذلك كان للآلهة الأخرى معابدها و علومها .

سمح فيثاغورث للنساء بالدخول إلى كليته و الانتساب إليها لطلب الحكمة , الأمر الذي لم يكن معمولاً به من قبل , فالحكماء الأقدم منه لم يقبلوا أن يعلموا النساء و اقتصروا في تعليمهم على الذكور , و طبقاً لهذا فقد قسم فيثاغورث تلامذته إلى صنفين : الفيثاغورثيين و الفيثاغورثيات , طبق فيثاغورث تعاليمه الحياتية على تلامذته فكان الجميع يعيشون بشكل مشترك مع بعضهم البعض كعائلة كبيرة , كل المقتنيات كانت ملكية للجميع , بالمقابل سمح فيثاغورث لتلامذته بالملكية الشخصية و الحق بالخصوصية متى رغب أحدهم بذلك .

كانت الفيثاغورثية حركة تخدم الأنوثة ، وكان بعض عمالها الأكثر نشاطاً نسوة . علّم فيثاغورث تلامذته الإناث علم الحياة العائلية ، وعلّم تحسين النسل , كانت زوجة فيثاغورث نفسها فيلسوفة ، و كانت المرشد للفيثاغورثيات في الكلية .

تم تخريج أكثر من ثلاثين امرأة كفيلسوفات عظيمات فيثاغورثيات ، أثناء فترة دامت ألف سنة تقريباً ، وهذا رقم قياسي لم تحققه أية حركة من الحركات الفلسفية الأخرى . إلا أن ذلك انقطع فجأة ، مع حكم الإعدام الذي نفذ بقساوة بالمرأة الفيلسوفة العظيمة الأخيرة ، وهي هيباثيا من الإسكندرية ، التي ألقي القبض عليها عند مغادرتها قاعة محاضراتها ، حيث قام رهبان غوغائيون متعصبون ، بإنزالها من عربتها وذلك بأمر من ( سيريل ) رئيس أساقفة مدينة الإسكندرية آنذاك ، و قطعوا أوصال جسدها بشكل وحشي , في كنيسة مسيحية .
وقد رُفّع سيريل إثر ذلك إلى مرتبة أعلى من مرتبته كرئيس أساقفة واعتبر قدّيساً فيما بعد .

كان فيثاغورث صارماً جداً فيما يتعلق بانتساب التلاميذ إلى مدرسته ، قائلاً : " ليس كل خشب يمكن أن يكون صالحاً لصنع الزئبق " .

ففي البداية يحضر المرشح إلى مبنى مخصص للألعاب الرياضية ، يلعب المبتدئون فيه ألعاباً مناسبة لأعمارهم . كان هذا المبنى مميزاً بأنه لا يوجد فيه تبجّح ، أو ضجة ، أو عروضاً للقوة , بل كان مكاناً لممارسة التلاميذ ( المنتسبين الجدد ) الرياضة الجسدية ، و كان فيثاغورث ينظم محادثاتهم و ألعابهم ، و يراقبهم عن كثب ليشكل فكرة دقيقة عن الأخلاق والمؤهلات للمريد ( التلميذ المنتسب ) المستقبلي .

بعد هذا يتم الاختبار بأن يقضي التلميذ ليلة كاملة ( حتى طلوع الفجر ) في كهف كبير عند حدود المدينة , زُعم أن فيه حيوانات مخيفة وأشباح تتردد عليه .

رفض فيثاغورث جميع المنتسبين الذين رفضوا الدخول إلى الكهف أو الذين حاولوا الهرب قبل حلول الفجر , لأنه اعتبرهم أضعف من أن يطَّلِعوا على المعرفة المبدئية .

يأتي بعد ذلك اختبار الفضيلة و العقل , حيث يحتجز المريد في غرفة ، ويعطى لوحاً إردوازياً ( حجرياً ) للكتابة ، ويؤمر أن يحل المعنى لرمز فيثاغورثي ما ، كمثال : " لماذا يكون الإثنا عشريّ السطوح مقيداً في الجسم الكروي، الرمز للعالم ؟ " يجلس المريد ساعات عديدة في الخلوة المنفردة ، و يقدم له الماء و بعض الخبز المجفف ، بعدئذٍ يُنقل التلميذ من الغرفة ، فإما أن يمتدحه المبتدئون ، إذا نجح في فهم الرمز ، أو يتم إبعاده على نحو يثير السخرية بدون رحمة ، إذا أخفق في ذلك .

و كان فيثاغورث يقف على مقربة من المكان ، و يراقب موقف الشاب و تعابيره . فإذا بَدَرَ من هذا الشاب ما يدل على الغضب أو التعصب أو فقد رباطة جأشه ، رُفض .

التلميذ الناجح في الاختبار يقبل في الكلية و يتم إهماله ثلاث سنوات مع دوام المراقبة لمزاجه و لتوقه للدراسة .

عند نهاية هذا الاختبار يطلب من المريد الصمت خمس سنوات , فبقدر ما يكون متحكماً و مسيطراً على لسانه بقدر ما يكون انتصاره عظيماً .

إذا نجح المريد في هذا الاختبار الأخير اعتبر فيثاغورثياً و أصبح من حقه أن يتعلم و يطلع على الحكمة و العلوم الفيثاغورثية .

أما إن رُفض فإنه يُعطى ضعف ثروته التي كانت لديه عند الانتساب ثم يبني الفيثاغورثيون له ضريحاً كما لو أنه قد توفي , و إذا قابلوه فيما بعد يعاملونه كغريب لم يسبق لهم أن عرفوه .

يبدأ البرنامج اليومي للكلية الفيثاغورثية بمراقبة شروق الشمس , و هذه عادة فيثاغورثية طقسية , مرتدين ثيابهم البيضاء حصراً , بعد سير الصباح يستحم التلاميذ و يزاولون الرياضة و من ثم يتقدمون إلى المعابد مشكلين جماعات حول الأسياد ( السابقين في العلم ) لبدء الدراسة , ثم يجتمعون لتناول الغداء المؤلف من الخبز – العسل – الزيتون , بعد الظهر يمارسون الرياضة و يدرسون ما أعطي لهم صباحاً , ثم يتناولون وجبة المساء المكونة من الخضار حصراً و يصلون عند الغروب , ثمّ يقرأ التلميذ الأفتى سناً نصوصاً مقررة في حين يقدّم الأكبر سنّاً منهم الشروحات عليها .

امتنع الفيثاغورثيون عن أكل اللحم وشرب النبيذ بشكل كامل ، لأنهم اعتبروهما " معاديين لقوة التعقل ويعوقان نشاطاتها " .

يلبس الفيثاغورثيون ثياباً بيضاء نقية أثناء النهار، وفي الليل يستلقون على سرير أبيض ناصع ، تحت أغطية مصنوعة من الخيطان بدلاً من الصوف ، وفي كل الطرائق يحافظون على مزاولة النظافة بعناية .

يستنبط الفيثاغورثيون كل أعمال النهار في الصباح ، قبل أن ينهضوا ، ويختبرونها في الليل قبل أن يناموا ، وهكذا فإنهم مرنوا الذاكرة بواسطة هذا الفعل المضاعف . لقد كانوا يتصورون أن هذا الفعل هو شيء أساسي ليستبقوا في الذاكرة كل الذي تعلموه ، وأن الدروس والعقائد يجب أن تنال هذا الاهتمام ، إلى أن يكونوا قادرين على أن يتذكروا كل ما تعلموه .

كان هدف التعليم الفيثاغورثي تطوير شخصيات تلاميذه الإنسانية و تجهيزهم كقادة مستقبليين للحضارة الجديدة ، لتُحكم هذه الحضارة بمتخرجين من مدرسته ، وهذه المرحلة ، طبقاً للتفكير الفيثاغورثي ، تكون المهنة الأكثر مسؤولية وأهمية من كل المهن ، وتحتاج لنوع من التحضير التعليمي السامي ، كما أنها تحتاج لمؤهلات مناقبية من أجل إنجازها وفعاليتها الناجحة .

خلّد أفلاطون أخيراً نظريات فيثاغورث في علم الاجتماع ، مقترحاً حكومة يديرها الحكماء ، بدل أن يحكمها السياسيون .

ففي "جمهوريته" ، يصف أفلاطون جمهورية مصاغة على موازاة الخطط الفيثاغورثية ، محكومة بملك فيلسوف تم تدريبه بشكل خاص منذ الطفولة ، بما يؤهله لمنصبه ، على قاعدة الفكرة القائلة بأنه قبل أن يكون أي شخص مناسباً ليحكم الآخرين ، بادئ ذي بدء ، عليه أن يتعلم كيف يحكم نفسه . فمن خلال الحمية النباتية غير المسرفة ، ومن خلال التدريب المناقبي الدقيق جداً ، كان مفترضاً أن يكتسب الميزات التي يلزم أن يمتاز بها الحاكم المثالي ، كي يمكنه أن يكون مكرساً من القلب إلى الخير العام ، وأن يقتني المقدرة ليحكم بالعقل . إن ما عبر عنه أفلاطون كنظرية ، وضعه فيثاغورث موضع التطبيق و الممارسة قبل ذلك بزمن طويل ، لأن تلاميذه أصبحوا حكاماً- فلاسفة حقيقيين لعدة مدن- دول في إيطاليا ، وحتى في ما يقوله أفلاطون ، فإن أرخيتاس الفيثاغورثي كان لا يزال يحكم مدينة تارنتوم .

إن تصور فيثاغورث لحكومة يرأسها خبراء متعلمون مؤهلون بشكل خاص ، قد أعيد إحياؤه في صيغة ما بواسطة حكومة الفنيين ، فكما تحكم الخلايا للأعضاء المتنوعة في الجسم ، هكذا في رأي فيثاغورث ، يجب أن تكون حكومة الدولة حاملة علاقة مشابهة إلى شعوبها ، كونها حكومة علمية مثلما هي إنسانية ، بمعنى أنها لم تكن حكومة أوليغاركية أنانية ، بل كانت مكرسة بإخلاص للخير العام الأعظم وللعدد الأكبر من الناس ، وكانت خادمة لهم .

نجح فيثاغورث في إشادة بناء على قمة مشرفة على مدينة كروتونا ، اعتبر مدينة نموذجية مصغرة ، كانت كلية وجالية في وقت واحد ، وكان هو على رأسها ، كفيلسوف ملك ، حكمها بالحكمة والنزوع إلى عمل الخير ، وليس بالأمر و الجبر أو بالقوة و التهديد .

إن إدراك فيثاغورث لحكومة يحكمها العقلاء ، و رجال الفضيلة ، النخبة ، التي بسطها أفلاطون في فهمه لـ "الملك الفيلسوف" ، كانت مضادة للفكرة الشعبية عن الديموقراطية ، تتلخص نظرية فيثاغورث السياسية بأن الحكومة ينبغي أن تكون للشعب ، مثلما يكون الأب العاقل للطفل ، وكما أن الطفل لا يعرف ما يكون الأفضل له غالباً ، وهو غير قادر على أن يختار أبويه الخاصين به ، فإن أفراد الجماهير الجاهلة الميالين و المنقادين بسهولة للساسة الدهمائيين تحت تأثير الخطابة وحدها ، لا يعرفون ما تكون منفعتهم الخاصة غالباً .

إن المعارضة لحركة فيثاغورث الجديدة من أجل الإصلاح الاجتماعي والسياسي ، و التي ارتفعت بسبب اعتراضه على ما يدعى بحكم الغوغاء الديموقراطي , وتأييده لحكومة تحكم بواسطة تلاميذ مدرسته ، قادت أعداءه إلى تدمير حركته ، تحت ذريعة أنه تعمّد تشييد أوليغاركية فكرية ، و أنه يعارض المثاليات للحرية الديموقراطية .

مارست هذه المدينة النموذجية تأثيراً هائلا على إيطاليا كلها ، بما أن المثل الحي كان أكثر قوة من نظرية مجردة ، وتبنت المثل المدن الإيطالية الأخرى ، فالمدينة التي أبدعها فيثاغورث سكنها الرجال والنساء الأحرار ، الذين لم يكن لديهم عبيد أبداً . و حكمت بهداية الحكماء الذين احترمهم وأطاعهم هؤلاء الأحرار اختيارياً ، وتمتعوا بالحرية التامة مما ألهم المدن الأخرى في إيطاليا السفلى حب الحرية فكسبت لقب : " المدن الحرة " بعد أن قبلت عقيدة فيثاغورث المثالية ، إلى أن تم سحقها بالاستبدادية الرومانية , وهكذا ابتلع المسخ الروماني الإمبريالي هذه المدن الفيثاغورثية الحرة ، فأخضعت واستعبد قاطنوها من قبل الفيالق الرومانية .

نتيجة التأثير الهائل للأفكار الجديدة التي وضعها و صاغها فيثاغورث في محاضراته العامة أمام سكان مدينة كروتونا , فإن ألفي مواطن في مدينة كروتونا تخلوا عن أسلوب حياتهم و مدنيتهم المعتاد , واتحدوا ليشكلوا مجتمعاً زراعياً , عاشوا فيه كلهم معاً في حالة أخوية , مالكين كل الأشياء بصفة مشتركة .

و قد حدث الشيء عينه في الأجزاء وفي اليونان أيضاً , حيث ظهرت المجتمعات المؤسسة للأخوة الفيثاغورثية في كل مكان , والمؤلفة من الرفاق الفيثاغورثيين الذين كرسوا أنفسهم لتعاليمه . ولم يطل الوقت حتى كسب الفيثاغورثيون السيطرة على الشؤون التشريعية في أكثرية دول المدن في إيطاليا السفلى .

إن حلم فيثاغورث ومثاليته في إقامة حضارة جديدة ونظام جديد للحكومة محكوم بالعلماء والحكماء , كان شيئاً مدركاً ومحققاً , فمن إيطاليا الجنوبية انتشرت الحركة الجديدة للإصلاح السياسي حتى اليونان الكبرى , و أُرسل الفيثاغورثيون في بعثات إلى المدن اليونانية كلها تقريبا , لغرض إنشاء المدارس , وإحلال المستشارين الفيثاغورثيين والعلماء والفلاسفة محل الحكومات الموجودة .

كانت الحركة ناجحة جداً لأنها نشأت في مرحلة كانت فيها المؤسسات السياسية القديمة قد بدأت تفسد , مثيرة اشمئزاز الناس , مما جعل الشعب يرحب بالحكومات الفيثاغورثية الجديدة , بدلاً من الحكومات الجشعة المحبة لكسب المال و اختزانه .

إن الحضارة العلمية الجديدة , التي كانت حكوماتها تهتدي بتوجيه الحكماء بدلاً من توجيه السياسيين , وهي الحضارة التي أنشأها فيثاغورث , في كل مكان من إيطاليا السفلى خلال القرن السادس قبل الميلاد , بقيت حية لربع قرن من الزمان , لم تهدأ أبداً محاولة بعث نظام متقدم للحكومة والتنظيم الاجتماعي , ولو أن هذه الحضارة بقيت حية , فإنها كانت ستبشر بولادة عصر ذهبي جديد من السلام , من التقدم والسعادة للجنس البشري , لكن أعداءها , الذين شعروا بأن منفعتهم الخاصة في خطر , كانوا أقل اهتماماً بالخير العام . فتحالفوا بعددهم و عدتهم ضدها , مما أدى إلى سقوط وتدمير هذا الاختبار الاجتماعي العظيم , الذي حاول فيثاغورث القيام به .

فيلسوف الحياة

إلقاء بعض الضوء على حياة مفكر و فيلسوف عظيم لم تستوفه الأقلام حقه و لم يعطى فكره و نهجه الأهمية التي يستحق و من خلال هذه
 
 اللمحة الموجزة التي نود إيرادها عن فيثاغورث و تعاليمه
 فإننا نأمل أن نكون قد ساهمنا في لفت نظر القارئ الكريم إلى مفكر و فيلسوف عظيم مجهول قليلاً , استطاع بفكره و حكمته أن يقيم أنموذجاً لمجتمع فاضل مسالم و حكيم على أرض الواقع , و لو لفترة زمنية قصيرة نسبياً .

ولد فيثاغورث في القرن السادس قبل الميلاد , في عصر كانت الحضارة فيه حضارة عقل و فكر لا حضارة تقنية و تكنولوجيا , و كان الإنسان فيه يتمايز عن غيره بعلمه و فكره و بجده و اجتهاده في البحث عن الحقيقة , لا باقتناء أحدث أجهزة الموبايل و أحدث السيارات …

ببساطة نستطيع أن نقول عن عصر فيثاغورث بأنه عصر الحكمة و الأديان , ففي الصين البعيدة ظهر نبيان عظيمان , هما لاو تسو و كونفوشيوس , اللذان أسسا دينين لا يزالان متبعان من قبل عدد كبير من سكان آسيا .

و في العصر عينه ظهر في الهند غوتاما بوذا , الذي أعاد الحياة لتعاليم كريستنا ( كريشنا ) في نقائها الأصلي , جاعلاً منها حجر الزاوية لدين جديد مرتكز على المحبة و التسامح والسلوك الأخلاقي الصحيح .
و ظهر في فارس , خلال القرن عينه , زرادشت , حكيم فارس و نبيها , وفي العالم اليوناني الروماني , ظهر في هذا الزمن فيثاغورث , الذي لم يكن بأقل من معاصريه حكمة و معرفة , ونستطيع أن نقول بأن فيثاغورث أسس ديناً جديداً كأي من الآخرين المذكورين سابقاً , و لكنه لم يسمح لتعاليمه العلمية – الروحية أن تنحط إلى فرقة دينية كنسية مراقبة بالكهنوت , ولم يسمح ببناء المعابد تكريماً له , أو بالعبادة الشخصية له بأي شكل , على الرغم من كثرة نسج الأساطير حوله و اتساع الاعتقاد بأنه حُبِلَ به بلا دنس كابن للشمس "الإله أبولو" .
و يعتبر فيثاغورث المؤسس الحقيقي للعلم الذي يسميه " حكمة الحياة " أو علم الحياة و الأحياء وهو تعبير ضم كلمتين في اللغة اليونانية ( Bios ) التي تعني الحياة و ( Sophia ) التي تعني الحكمة . لأن هذا العلم برأيه كان هو العلم الملكي الذي تدور حوله وتخدمه كل العلوم الأخرى .

نستطيع أن نقول أن فيثاغورث كان رسول العالم لليونان و الغرب فهو الذي جمع علوم الدنيا في عصره و غرس بذورها في أوروبا لتعود فتشع فيما بعد على العالم أجمع .

كان فيثاغورث الإنسان الأول الذي دعي بالفيلسوف , فبينما كان يدعى العلماء في عصره حكماء , كان فيثاغورث يفضل لفظة فيلسوف ( محب الحكمة ) , و نستطيع أن نستشف قيمة العقل و دوره عند فيثاغورث من قوله ( الله هو العاقل فقط : الرجال عند الحالة الأفضل ما هم إلا محبي الحكمة فحسب . ) .

ميز فيثاغورث بعمق بين التعلم , المعرفة , و الحكمة , جاعلاً الحكمة هي الأسمى , حيث يقول في ذلك :
( العلم، المعرفة، والحكمة، أقسام ثلاثة للتثقيف .
العلم ضحل ، و يتألف من تلك الأشياء التي تحفظ وتقال عن ظهر قلب .
المعرفة أساسية وتتألف من تلك الأشياء التي نعرف ، وليس من الأشياء التي نفترض لنعتقد بها فحسب .
المعرفة قوة : للسعادة وللمحنة .
الحكمة تتفوق على الجميع ، كونها الجوهر الفعال المركز عن خبرة .
من خلال الحكمة وبواسطتها نفهم الأشياء كلها : بواسطة الحكمة يتم الشفاء .
الحكمة وحدها الفيلسوفة العذراء ، المولدة أبداً ومع ذلك العذراء أبداً .
المعرفة كلها اعتقاد وليس كل الاعتقاد معرفة .
يكمن الفرق بين الحكمة والجهل في التمييز ، كذلك بين اليقين والشك , والحقيقي والمزيف ) .

و لا بد أن نذكر في معرض حديثنا عن مآثر فيثاغورث العلمية , المأثرة الأكثر شهرة له و هي نظريته الفيثاغورثية و هي العرض السابع والأربعين لإقليدس صاحب الهندسة الإقليدية , تقول النظرية : ( في المثلث قائم الزاوية مربع طول الوتر يساوي مجموع مربعي طولي الضلعين المحاذيين للزاوية القائمة ) .

و أيضاً لا بد لنا من أن نذكر شغف فيثاغورث بالموسيقى و الأعداد و الأرقام و محاولته تمثيل الأشياء و الأفكار المجردة بأعداد معينة , و لتوضيح هذه الفكرة نورد ما ذكره أرسطو في كتابه " الآثار العلوية عن الفوثاغوريين " حيث يقول : (وكما يقول الفوثاغوريون : إن العالم كله والأشياء كلها الموجودة فيه تختصر في العدد الثالث ، لأن النهاية والوسط والبداية تعطي العدد للكل ، ورقمها ثلاثياً . ومن هنا، أخذنا نحن هذا العدد من الطبيعة ، كما كان واحداً من قوانينها ، واستخدمناه حتى في عبادة الآلهة ) .

و أيضاً يشير أرسطو في كتابه الهام " ما وراء الطبيعة " إلى نظرة الفيثاغورثيين للعالم و الأعداد فيقول : ( يقول الفوثاغوريون : إن العالم نشأ من الأعداد وكانوا يحترمون العدد عشرة ، ويقولون إن الأشياء عينها تكون أعداداً ، وبسبب أنهم رأوا بأن العديد من خصائص الأعداد تخص الأجسام المحسوسة ، افترضوا أن الأشياء الموجودة تكون أعداداً ، وأن عناصر الأعداد هي عناصر الأشياء .
ويقولون ، بأن الأشياء الموجودة تدين بوجودها إلى تقليد الأعداد ، وبما أن طبيعة كل شيء آخر يبدو أنه مشابه للأعداد ، وبما أن الأعداد تكون في كل مكان من العالم الطبيعي بشكل رئيسي ، افترض الفوثاغوريون أن عناصر الأعداد هي العناصر لكل ما هو موجود ، وأن العالم كله يكون تناسباً وعدداً ) .

و أيضاً في نفس الكتاب يعود فيقول : ( إن الفوثاغوريين هم الذين خصصوا أنفسهم عملياً لعلم الحساب ، قبل الفيلسوفين اليونانيين الذريين ليوسيبوس ، وديموقريطس ، وحققوا تقدماً مهماً في هذا الموضوع ، وبسبب استغراقهم فيه ، افترضوا أن مبادئ علم الحساب هي مبادئ كل الأشياء . لقد ميز الفوثاغوريون نوعاً مفرداً للعدد ، أي العدد الحسابي ، لكن ليس له وجود منفصل عن الأشياء الحسية ، كذلك فعل ليوسيبوس ." وهذا الرأي كان رأي الأفلاطونيين بشكل عام" . ويثبت الفوثاغوريون مبدأين اثنين بشكل مماثل ، لكنهم يضيفون شيئاً مميزاً لهما ، أعني أن المحدد واللامحدود لا ينسبان إلى العناصر الطبيعية الأخرى مثل النار أو الأرض أو شيء ما مشابهاً . وهم يؤكدون بالأحرى أن اللامحدود عينه والوحدة عينها هما المادة ، ولهذا السبب هم يقولون أن العدد يكون مادة الأشياء كلها ) .

ويورد أحد مؤرخي الفلسفة اليونانية في كتاباته ما يلي : ( إن الوصف العلمي لكل شيء في العالم العلمي يأخذ شكل المعادلات العددية ، إن ما ندركه كنوعيات علمية – طبيعية ، مثل اللون الحر ، الخفة ، والصوت – كلها تختفي وتحل محلها الأعداد ، ممثلة أطوال الذبذبة أو الأحجام . لهذا السبب فإن المؤرخين العلميين أكدوا أن اكتشاف فوثاغورس لعلم العدد ، غير مجرى التاريخ كله ) .

و قد كتب الاسكندر الأفروديسي ( شارح أرسطو ) في هذا الأمر ما يلي: ( إن الفوثاغوريين افترضوا صفة محددة للعدل ، للمكافأة ، أو للمساواة ، و وجدوا أن هذه الصفة المميزة توجد في الأعداد ، لهذا السبب قالوا بأن العدل كان العدد الأول المربع ، لأنه في كل نوع امتلك المثل الأول للأشياء الذي لديه الصيغة عينها ، امتلك الحق الأفضل للاسم ، هذا في رأيهم .
وقال البعض بأن هذا العدد كان 4 ، كونه العدد المربع الأول ، وهو يقسم إلى أجزاء متساوية ، وهو متساو في كل طريقة ، لأنه مرتين العدد 2. ومهما يكن، فإن الآخرين قالوا بأنه كان العدد 9 ، المربع الأول للعدد المفرد الوتري ، يعني العدد 3 مضروباً بنفسه .
و على الجانب الآخر ، قالوا : إن المناسبة كانت العدد 7 ، لأن إتمام الأزمنة في الطبيعة ، في ما يتعلق بالولادة والرشد يشترك في السبعات .
ويقولون علاوة على ذلك ، "هكذا يخبرنا فوثاغورس" ، بأن الشمس بسبب كونها سبب تكون الفصول ، مركزة في منطقة العدد 7 والذي يماثلونه بالمناسبة ، يعني ، أنها تحتل المكان السابع بين الأجرام العشرة التي تتحرك حول الموقد المركزي . ويماثلون الزواج بالعدد 5 ، لأنه اتحاد للذكر والأنثى ، وطبقاً لهم فإن الذكر هو عدد مفرد والأنثى عدد مزدوج، وينشأ العدد 5 من العدد الأول المزدوج (2) ومن العدد الأول المفرد (3) ويماثلون العقل والموجود بالوحدة ، لأن فوثاغورس يصنف الروح بالعقل ) .

أما في الموسيقى , فقد كتب هيراكلايدس في مقدمته عن الموسيقى ما يلي : ( اكتشف فيثاغورث ، كما يقول زينوكراليتس : إن الفواصل الموسيقية تدين بأصلها لضرورة العدد أيضاً ، لأنها تكمن في مقارنة نوعية واحدة بأخرى . وحقق فوثاغورس في أية حالات تكون هذه الفواصل منسجمة وفي أيها لا تكون ، وفي أصل التناغمات واللاتناغمات ) .

و من المعروف بأنه لفيثاغورث يعود الفضل في إدراك أن : الإطار الأصلي للموسيقى يعتمد على نسب رقمية محددة هي 1: 2 "الثماني"، 3: 2 "الخماسي"، 4: 3 "الرباعي".. إن هذه الأعداد تمثل نسبة الاهتزازات على الخيط ، أو عمود الهواء في المزمار.

ويؤكد نيقوماخوس : " أن أوزان العدد 12 و 6 أنتجت "الثماني" ، وأوزان وحدات العدد 12 و 2 أو 9 و 6 أنتجت "الخماسي" ، وأوزان وحدات العدد 9 و 8 أنتجت "الرباعي" .

ويورد كورن فورد الذي كتب عن الفوثاغورية ما يلي: ( كفلسفة دينية فإن الفوثاغورية علقت أهمية مركزية
على فكرة الوحدة وبشكل خاص وحدة الحياة كلها ، التي تدل ضمناً على نظام التقمص ) .

علم فيثاغورث قبل – كوبرنيكوس , تيخوبراه , كبلر و جاليليو – بقرون عديدة أن الأرض مستديرة وتدور دورتين حول الشمس , وأن النجوم كانت أنظمة شمسية أخرى مثل نظامنا الخاص , وكانت مثل الشمس في حركة دائمة . وبالرغم من أن كوبر………..وس الذي اعترف بِدَينه لفيثاغورث لإعلانه الثوري في ما يخص دوران الأرض حول الشمس , نجا بحياته , تماماً مثلما فعل جاليليو , الذي شجب علناً معتقده هذا و أنقذ نفسه , فإن الفيلسوف الفيثاغورثي السيء الحظ , جيوردانو برونو , قاسى العذاب سجناً وأعدم حرقاً لتأكيده العقيدة بعلم النجوم لفيثاغورث .

إن هذه التعاليم الفيثاغورثية عارضتها الكنيسة بشدة . ومعارضة الكنيسة هذه توضح لماذا أتلفت وفقدت كل كتابات فيثاغورث والفيثاغورثيين حتى اليوم بما يتعلق بعلوم معينة , في حين أن تعاليم فيثاغورث عن التغذية , و الغدد الصم , والمتعلقة بتحسين النسل لا تزال موجودة .

أوجد فيثاغورث السلم الموسيقي القوي أو الدياتوتي , التي أسست عليه الموسيقى لقرون متتالية حتى يومنا هذا .
و يمكن أن يكون هذا السلم هو القاعدة لتصور فيثاغورث عن "موسيقى الأفلاك" , التي تنتج من حركات الأرض والكواكب حول الشمس .

أوجد فيثاغورث أيضاً علم الطب و صنفه و فنده و اعتمد أبقراط الذي كان معاصراً له على أبحاث فيثاغورث في علم وظائف الأعضاء و علم التغذية و علم تحسين النسل .

أدار تلامذة فيثاغورث فنهم العلمي الشافي في المعابد و شفوا فيها الفقراء و المبتلين دون مقابل , و ذلك لإحياء و إعطاء تعبير جديد للفلسفة الفيثاغورثية .

كان فيثاغورث الموجد لنظام المعالجة بالطبيعة والشفاء بدون استخدام العقاقير الطبية والعمليات الجراحية التي سادت بين اليونانيين صعوداً إلى أيام جالينوس , الذي اعترف بدينه إلى السَدّ ( فيثاغورث ) .

فهم فيثاغورث القيمة العلاجية للنباتات المختلفة , واستعمل الأعشاب الطبية في علاج المرضى , كما استخدم أيضاً الموسيقى واللون كعوامل علاجية .

إن النظام الفيثاغورثي للمداواة الطبيعية وصل بالتناقل إلى فرقة فيثاغورثية جديدة من الأسينيين المتجولين الذين شفوا المرضى المحتشدين حولهم أينما حلو , و قد ولدت المسيحية الأصلية في هذه الفرقة الدينية , والاسم الحقيقي لقائدها كان أبولونيوس الطياني وهو الفيلسوف الفيثاغورثي الجديد للقرن الأول الميلادي , وقد بُجِّلَ في زمنه كما لو أنه السيد المسيح .

اعتُرِفَ لفيثاغورث بأنه الأب النباتي , حيث كان الإنسان الأول الذي حاول الإصلاح الجذري في عادات الحمية للأجناس الإنسانية , وكان هو الملهم لمدرسة الفلاسفة اليونان والرومان , الذين ضمنوا النباتية كسمة أساسية في فلسفتهم , مثلما فعل أفلاطون , أرسطو , ابيقورس , أبولونيوس , والعديد من الفلاسفة الآخرين .

سبق فيثاغورث غيره في علم الغدد الصم و أدرك الأهمية الحيوية للهرمونات الجنسية , الأمر الذي جعله يتبنى أسلوب حياة يؤدي إلى التركيز الفكري الأسمى في الجسم , لهذا يُعتبر كبح النفس عن الشهوة الجنسية سمة جوهرية في الحياة الفيثاغورثية .

و تجدر الإشارة إلى أن فيثاغورث حاول تهذيب الشهوة و التحكم بها بدل أن تتحكم هي بالإنسان , و لكنه لم يحرمها أبداً .

استنبط فيثاغورث المبادئ الأساسية لعلم تحسين النسل مبيناً أن تحسين الأنواع يجب أن يكون هدف الجنس البشري الأكثر أهمية و أولوية .

اعتقد فيثاغورث بالنظرية الوارثية للصفات المميزة المكتسبة , واعتقد أن الحمية النباتية , وحياة النظافة والثقافة الموجودين قبل الولادة , والصيانة للحيوية التناسلية , وضبط النفس عاطفياً يمكنها كلها أن تنتج أطفالاً أرفع مقاما جسدياً وعقلياً .

يقول فيثاغورث : ( مما يدعو للسخرية ، أن يظهر الرجال اهتماما أقل نحو نسلهم الخاص ، منجبين الأطفال عرضاً وبإهمال ، وبعد الولادة لا يحققون لهم غذاء أو تعليما ملائما إن أمرا كهذا يوضح بقوة مدى الخلل والانحراف ، التي تنغمس بهما أكثرية الجنس البشري ، لأن الجماهير تتوالد بشكل غريزي ، مثل البهائم ) .

أوصى فيثاغورث تلاميذه و مريديه بحمية تتعلق بعدم أكل اللحم , لأن هذه الحمية تعتبر موصلاً إلى سلام عالمي , لأنه اعتقد أن قتل الحيوانات يقود حتماً إلى قتل الإنسان للإنسان , في حين أن الامتناع عن هذا العمل يمنع الحرب .

حض فيثاغورث السياسيين بشكل خاص وحكام الدول , كي يمتنعوا عن أكل اللحوم , فيقول : ( كيف يستطيعون هم أن يتظاهروا بأنهم يأمرون بالعدل , عندما يخالفون العدل كله بواسطة التضحية , لقد قادهم ذلك إلى النهج الهمجي للتضحية بمخلوقات متحالفة معنا بواسطة الطبيعة إلى حد بعيد ! لأنه من خلال الجماعة المشتركة في الحياة , وللعناصر الضرورية عينها , وللتعاطف القريب , الذي ينبغي أن يستمر , لهذا السبب فإن هذه المخلوقات تكون متحدة معنا باتحاد أخوي و ودي , مثلما كانت أصلاً ) .

يُعترف بشكل عام بأن فيثاغورث كان الموجد والمشرّع لما يختص بصداقة الروح نحو الجسم ، و صداقة الزوج نحو الزوجة من خلال المشاركة التي لا يساء استعمالها ، أو في ما يتعلق بالجسم وقواه الكامنة المتضاربة ، وذلك من خلال الصحة والحمية المعتدلة المنسجمة مع هذا الأمر .

كما علّم فيثاغورث نظاماً متقدماً عن الحكومة العلمية فيما يخص علم الاجتماع ، و علّم نظاماً عادلاً للتوزيع الاقتصادي ، وكان بعيداً في تقدمه أكثر من أي نظام وجد قبل أو بعد .

فقد علم فيثاغورث أن ملكية الأصدقاء يجب أن تعتبر من أجل الخير المشترك ، و أن الصداقة تكون مساواة ، وسلّم مريدوه بأفكاره فقاموا برمي أموالهم وبضائعهم أمام قدميه ، وكانت ملكية الأشياء فيما بينهم مشتركة .

أعطى فيثاغورث بتعاليمه السامية عن الحب الأخوي الحقيقي مثالاً فعلياً عن هذا الحب تجلى في قصة ( دايمون و بيثياس ) التي أصبحت مضرب المثل فيما بعد . و تتلخص هذه القصة الجميلة بما يلي :

كان دايمون و بيثياس قد تهذّبا واطّلعا على الشعائر الدينية المقدّسة للمجتمع الفيثاغورثي ، فأصبحا متحدين بروابط الصّداقة و المحبة الأخوية ، تجرأ دايمون بإعلان و فضح إساءات و اعتداءات طاغية عصره ديونيسيوس بكل صراحة , فأمر الطاغية ، بالحكم على دايمون بالموت ، جزاء فعله هذا ، فأتى بيثياس (صديقه) لمساعدته طالباً من الطاغية إرجاء تنفيذ حكم الإعدام عليه ست ساعات ، كي يتمكن دايمون من أن يرى زوجته وطفله قبل أن يموت ، مقدماً نفسه ليصبح كفالة و ضمان من أجل عودة دايمون إلى الطاغية لتنفيذ الحكم فيه .

أُوثق بيثياس وسيق إلى السجن , و أطلق دايمون لسبيله كي يذهب لرؤية زوجته و طفله , أصبح الطاغية مهتماً وراقب النتيجة مبهوراً بينه و بين نفسه بهذه الحادثة الغريبة الشأن . و عندما أتت الساعة الأخيرة و دايمون لم يأت بعد , أخذ الطاغية يسخر و يستهزء من بيثياس لعمله المتسرع الأبله هذا .

أمر الطاغية بأن يساق بيثياس إلى موقع تنفيذ الحكم لاقتراب الموعد , وعندها أعلن بيثياس أنه لا يشك مطلقاً في وفاء صديقه ، وصدق إخلاصه ، حتى وإن كانت نهايته هي الموت .

يعود دايمون في اللحظة الأخيرة و يقدم نفسه إلى يدي الطاغية , فيعجب بعمق صداقتهما و نبالة موقفهما و يلغي عقوبة الإعدام ، و يعانق الصديقين ، متوسلاً لهما أن يقبلاه عضواً ثالثاً في مجتمعهما النبيل ، لكنهما لا يوافقا على طلبه ، رغم أن ديونيسيوس كان قد نشد ذلك بشكل جدي .

 

نشأتهم وأماكن تواجدهم (Druze)

Druze

من المعروف أن أغلبية الموحدون  يعيشون في سورية ولبنان وفلسطين وتحديداً في الأماكن الجبلية كجبل العرب في سورية وجبل الشوف في لبنان وجبل الكرمل في فلسطين المحتلة

والكثير لا يعرف أن عدداً لا بأس به يسكن جبل السماق (الأعلى) في شمال سورية الذي لا يبعد كثيراً عن أنطاكية حيث كانت مركزاً مهماً لهم في وقت من الأوقات، وفيما بعد ونتيجة لظروف معينة هجروا لا بل هُجّروا منها إلى لبنان وفلسطين وعلى عدة مراحل.

فكيف وصلوا إلى أنطاكية والمعرة وجبل السماق..؟ وفي أي زمن من الأزمان.. وما هي الأسباب التي جعلتهم يهجرون تلك المناطق وما يلفت الانتباه أنه من خلال تنقلاتهم من مكان لآخر كانوا يختارون الأماكن الجبلية العالية والوعرة.. بالتأكيد لتكون ملاذاً آمناً لهم ولصعوبة الوصول إليهم والنيل منهم؟

معظم المصادر والروايات وكبار المؤرخين العرب تؤكد على أن الموحدين الموحدون هم في أصولهم قبائل عربية تنوخية جاءت من اليمن على أثر تصدع سد مأرب قبيل الإسلام وسكنت سهول الحجاز والإحساء (البحرين حالياً) ثم انتقلوا إلى الحيرة في العراق ومنهم ملوك المناذرة أصحاب الحيرة ثم إلى شمال العراق ومنها إلى حاضر حلب وقنسرين والمعرة وجبل السماق وصولاً إلى أنطاكية وقد أصبحت معقلاً هاماً لهم واستقاموا فيها لفترة من الوقت وفي ذات يوم من العام 205هـ تعرض لبعض حريمهم مندوب والي حلب المسمى بالمشد فتصدى له رجلاً منهم يدعى (نبا) وقتله على الفور ما أدى به أن يهرب بعياله إلى كسروان في جبل لبنان ومعهم عدد لا بأس به من زعماء القبائل الموجودة في المنطقة وبقيادة الأمير تنوخ الملقب بالمنذر.. وعرفت ما يسمى بالهجرة الأولى…

وفي العام 423 هـ تعرض الموحدون (الموحدون) إلى اضطهاد فظيع بعد أن آفل نجم الدولة الفاطمية في مصر وبعد أن تحالف الظاهر لإعزاز دين الله مع البيزنطيين بقيادة – نيكيظا – فعملوا سوياً على التنكيل بهم وقتلوا منهم ما زاد على الألف شخص بطرق شنيعة وفظيعة – وهنا نورد مثالاً – كانوا يشعلون النار والدخان على أبواب المغاور والكهوف التي اختاروها ليختبؤوا فيها خوفاً وكان نصيبهم أن ماتوا بداخلها خنقاً..؟

وهذه الأعمال كانت بمثابة المحنة وبناء عليه أسموها بمحنة أنطاكية.

ونتيجة ذلك هاجر قسم كبير مما تبقى منهم إلى جبال لبنان هرباً… واختاروا تلك الجبال لاعتبارها أكثر بعداً وآمنا.

وهكذا توالت الهجرات أيام الأمير فخر الدين المعني الثاني وأيام الأمير بشير الشهابي وكلها عمليات تهجير جعلتهم هاربين مذعورين لما لاقوه من اضطهاد وظلم وقسوة.

بعض عقيدتهم:

إن أساس معتقدهم، وحدانية الخالق المطلقة، واعتراف المخلوق بالعجز عن إدراك الخالق والإحاطة به، ونظرتهم إلى المعرفة من أسمى المراتب لأن المعرفة هي الغاية والسعادة والكمال، وبواطن الأشياء عندهم أسمى من ظواهرها ومن سماتهم إخضاع النفس للمراقبة الشديدة، وبذلك تتكون المعاني الحقيقية للعبادة.

وهذه الاعتبارات جميعها تؤدي إلى كونه مذهب إسلامي يرتكز على القرآن الكريم ويقر بالكتب السماوية الأخرى.

أما تسميتهم ب(الدروز) فهي خاطئة ومنكرة عندهم وتعود إلى الداعي الملحد والخارج عن دعوتهم وعقيدتهم (نشتكين الدررزي) الذي عاث فساداً وكذباً في دعوتهم عندما خرج مارقاً إبان ظهور دعوتهم أيام الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في مصر إضافة إلى ذلك فلم يرد ذكر كلمة (دروز) في أي من كتبهم المقدسة وللعلم فإن الداعي المذكور قتل على أيديهم في وادي التيم بين سورية ولبنان.

اندماجهم في المجتمعات والطوائف الأخرى:

لهم تراث وتاريخ عريق بانتمائهم العربي وافتخارهم بالقومية العربية محافظين على الأصالة والأخلاق الحميدة ومتمسكين بسلالاتهم وأنسابهم الأصلية، ومن يبحث عن علوم الأنساب والتاريخ يجد ذلك واضحاً، أضف إلى ذلك فهم يتمتعون بسلامة النطق ومخارج الحروف الصحيحة النابعة من القرآن الكريم.

انخرطوا في مجتمعهم العربي وحاربوا محاولات التفريق والفئوية. ووقفوا بكل ما يستطيعون إلى جانب القضايا العربية العادلة التي عصفت بهذه الأمة منذ بداية الإسلام وما زالوا، فشاركوا في فتح الشام عهد الفتوحات الإسلامية واشتركوا مع الأمويين في حروبهم ضد الروم، وعندما قدم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور إلى دمشق استمالهم إلى جانبه وأرسلهم إلى لبنان لحماية السواحل وتأمين طرق المواصلات وحمايتها من النهب والإغارة على القوافل من قبل الروم، وطبعاً لمعرفته بهم (مقاتلين أشداء) لا يخافون المعارك ولا يخافون لومة لائم.

ثم حاربوا التتار في موقعة عين جالوت بقيادة الأمير زين الدين صالح الأرسلاني إلى جانب السلطان قطز.

وساعدوا المماليك ضد الصليبيين وضد التتار ووقفوا مع الظاهر برقوق في حربه ضد التركمان والإفرنج.

وحديثاً ناضلوا ضد الاستعمار العثماني والفرنسي وأبلوا بلاءً حسناً أيام الثورة السورية الكبرى واستطاعوا إلى جانب إخوانهم من الطوائف الأخرى في سورية انتزاع النصر والحصول على استقلال سورية الحديث.. أيضاً شاركوا في حروب 1967 – 1973 – 1982 ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين مدافعين بنبل عن أرضهم وشعبهم وقدموا دمائهم غزيرة وعدد شهداؤهم فاق كل التوقعات.

هكذا تراهم في كل عهد سلكوه يؤكدون على الهوية العربية الإسلامية وهذا يكمن في سر وجودهم وبقائهم من خلال احترام الآخرين ومطالبهم بالتعايش السلمي ونبذ التعصب والجهل.

من صفاتهم:

كرم الضيافة الكرم العربي الأصيل الذي حافظوا عليه سنين طويلة ويتجلى ذلك واضحاً في انتشار المضافات والمجالس الذي لا يخلوا بيت أو منزل ففيها يجتمع الأهل والأصدقاء والزوار وتدور فيها الأحاديث وقصص البطولات والأشعار واستقراء التاريخ، فيها يتعلم الصغير الأدب والثقافة واحترام الكبير وترتسم لديهم فكرة أن الكرامة والشهامة هي عنوان الرجولة وعن كرمهم واحترامهم للضيف قال أحد الشعراء عنهم:

لا يرفع الضيف عيناً في منازلنا **** إلا على ضاحك منّا ومبتسم.

ولا تخرج المرأة عندهم عن هذا الإطار فهي تشارك الرجل وتقف إلى جانبه في البيت والحقل وفي ساحات القتال والأمثلة واضحة عن مشاركتها أيام الثورة السورية الكبرى في المقاومة وتقديم المساعدة والعون إلى الثوار.

ونظرتهم إلى المرأة هي المساواة في الحقوق والواجبات ولها الحق في التعليم والمعرفة ولا يسمح للرجل بالاستئثار بالعصمة وإنما جعلوها بين الاثنين معاً.

وتعدد الزوجات عندهم غير مباح ولا يجوز للرجل الجمع بين امرأتين لاستحالة العدول بينهما عملاً بقول الآية الكريمة «ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم» صدق الله العظيم.

ونسبة الطلاق عندهم قليلة جداً، وقليلة الحظ من يطلقها زوجها لأنه لا يجوز إرجاعها إليه حتى لو تزوجت من غيره؟!

ولأجل ذلك حرم عليهم المشروبات الروحية والمسكرات بأنواعها حتى التدخين خوفاً من أن يقودهم ذلك إلى ارتكاب الأخطاء ولأن المرأة عنصر هام وقاسم مشترك مع الرجل في تكوين الأسرة السليمة المتعافية.